في مطلع القرن العشرين لم يكن العراقيون شعبا واحدا او جماعة سياسية واحدة. وهذا لا يعني فقط الاشارة الى وجود الكثير من الاقليات العرقية والدينية في العراق، كالأكراد والتركمان والآثوريين والارمن والكلدانيين واليهود والإيزيديين والصابئة وآخرين. فالعرب انفسهم الذين يؤلفون اكثرية سكان العراق كانوا يتشكلون الى حد بعيد من جملة من المجتمعات المتمايزة والمختلفة في ما بينها والمنغلقة على الذات، بالرغم من تمتعهم بسمات مشتركة.
وحينما احتلت بريطانيا العراق خلال سنوات الحرب العالمية الاولى "1914- 1917" لم يكن من الممكن التمييز بين هذه العناصر فقط من النواحي الاثنية او الدينية او الطائفية او بحسب او حجم اراضيها او مستوى دخلها او رأسمالها خلال العهد الملكي "1921- 1958" او حتى بحسب نفوذها السياسي او هيبتها الاجتماعية، او توافق او تنافر مصالحها مع التغلغل الاقتصادي البريطاني، بل باتجاه مهم آخر، الا وهو العناصر المختلفة او المجموعات ذات المكانة الاجتماعية المتباينة داخل كل طبقة بذاتها، مثل ملاك الاراضي من آغوات وشيوخ العشائر، وملاك الارض من "السادة" الحضريين، ملاك الارض من رؤساء المذاهب الدينية المختلفة، ملاك من رجال الدولة الارستقراطيين، ملاك الارض من المضاربين والتجار والصيارفة والصناعيين وملاك الارض من الضباط الشريفين السابقين التي تحمل معها بصمات الاشكال الاجتماعية المختلفة او الفترات الزمنية المتعاقبة.
وكان هذا يرتبط بشكل خاص، الى ان العراق كان يتألف في ظل الحكم العثمانيوالى حد غير قليل – من مجتمعات متمايزة، مهتمة بذاتها، وذات صلات متبادلة واهنة ويرتبط بشكل جزئي آخر الى التداخل بين صيغة اجتماعية تتجه باتجاه تكديس المال وتوسيع نطاق الملكية الخاصة، وهي صيغة تكونت اساساً من خلال روابط العراق الجديدة نسبياً مع السوق العالمية المعتمدة على الصناعات الكبيرة، والصيغ الاجتماعية الاقدم التي تربط قيمة الانسان بعراقة النسب او بالعلم او بالورع او بالبسالة القتالية في الغزوات القبلية، كما ان هذه المجتمعات كانت خاضعة الى حد كبير لسيطرة الروابط المحلية والنظرات المستقبلية الشعبية، وسيطرة الحرف اليدوية او انتاج زراعة الكفاف وخاضعة خارج المدن لصيغ ملكية الدولة والملكية العشائرية المشاعة.
في مثل هذه الظروف كانت صحافتنا الوطنية في ارهاصاتها الاولى تدعو الى الاصلاح والتغيير ضمن الثقافة التقليدية السائدة وقتذاك. وكانت اجراءات الغلق والتعطيل والمصادرة والمضايقة والحرمان من الاعلانات وتقليل حصة الورق او الغائها تعد من النوافل، وكانت اغلب الصحف ما تكاد تظهر حتى تختفي، فهي ان لم يُلغ امتيازها لأسباب سياسية، أفلست واضطر اصحابها الى التوقف عن اصدارها.
وخلال العامين 1924 و 1925 ثم لفترة قصيرة في العام 1927 ظهرت اول جريدة تقدمية في العراق حملت اسم "الصحافة" وأدت الى خلخلة روتين الحياة اليومية في العراق، ولكنها سرعان ما انقضت وخرجت من الذاكرة، وربما يكون مغزاها قد تلاشى كلياً الا بالنسبة للمراقب المتنبه الذي ما كان ليفشل في ان يرى عارضاً منذرا بأن "المحرومين" في العراق قد بدأوا بالتحرك.
وكانت "الصحافة" تتعلق بجمعية ماركسية يقودها شاب يدعى حسين الرحال، وفي الوقت نفسه، وبشكل منفصل تماماً عن امثال هذه الجمعية الفطرية غير المتحزبة، كانت البذور الاولى للشيوعية تزرع في العراق سراً وبصمت تام. والى هذا، ثمة مفارقة تاريخية اشبك بالفكاهة، إذ كانت صناعات بغداد من انواع الحرف اليدوية، ولهذا لم يكن فيها بروليتاريون – بالمعنى الاشتراكي الدقيق – يمكن توجيه الخطاب الاشتراكي اليهم. وحتى عندما اعلنت جريدة "المفيد" العراقية بتاريخ 11 آب 1922 ان حزباً عملياً سينزل الى الميدان نُظر الى ذلك الاعلان على انه نكتة طريفة. لقد اعتمدنا في هذه الدراسة على كتاب حنا بطاطو في جزئه الثاني ومذكرات حسين جميل وزكي خيري كمصادر لا بد منها.
والآن من هو حسين الرحال، ومن هم افراد جماعته تحديداً؟


كان الرحال متحدراً من اب عربي وام تركمانية. وكانت امه من عائلة "النفطجي" التي تمتعت باحتكار منابع النفط في كركوك في ظل الولاة العثمانيين. وكان ابوه من الرحالية الدليم في الرمادي، وكان ينتمي في القرن التاسع عشر الى طبقة "الجلبيين" الذين كانوا تجاراً يتبوؤون مراكز اجتماعية رفيعة، ولحسين الرحال صلات وقرابات عائلية مع اسماء مهمة في تاريخ العراق الحديث امثال امينة الرحال وزكي خيري وحسين جميل وعبد الفتاح ابراهيم وعاصم فليح وعبد القادر اسماعيل.
واستناداً الى عراقيين مطلعين فقد كان مقدرا للرحال الصبي وقتذاك ان تتقاطع حياته مع حياة معلمه في ظروف اكثر زخماً. ولكنه كبر واخشوشن ليصبح احد ابرز مفكري العراق المعاصر، وهناك من اطلق عليه لقب "قاسم امين العراق" على الرغم من انه لم يكن يتمتع بمثابرة هذا المدافع المصري عن المرأة ودأبه. ومع ذلك، ومما لاشك فيه فان حسين الرحال كان اول ماركسي في العراق، وان جريدته "الصحافة" كانت اول مطبوع تقدمي في صحافة القرن العشرين العراقية.
كان والد الرحال عسكرياً يعمل في سلك الضباط الاتراك ومتقدماً في القيادات العليا للمدفعية، حملته واجباته العسكرية الى انحاء كثيرة من العراق والامبراطورية العثمانية. ورافقه ابنه حسين دوما مما اتاح له الفرصة لمراقبة طرق عيش شعبه عن قرب. وحملته السنوات الاخيرة من الحرب العالمية الاولى الى المانيا حينما كان والده في بعثة عسكرية ولم يستطع، ان يمنع نفسه من المقارنة بين احوال العراقيين واحوال الاوربيين المتقدمين. وفي نهاية الحرب كان الرحال الشاب يتلقى علومه في مدرسة ثانوية المانية في برلين. وفي عام 1920 عاد الى مسقط رأسه في بغداد ليجد مواطنيه غارقين في انفعالات التململ والقلق، بسبب احداث الثورة العراقية العارمة، وما تركته النزاعات التي ثارت حينها وتدفقات المشاعر المضطربة وحالات القمع التي مارسها الغزاة وحوادث التفاني والتضحية من علامات لا تمحى من ذاكرة الكثير من العراقيين. وسرعان ما خلف الابتهاج بالانتصارات المبكرة للثورة وراءه مشاعر الاحباط والمرارة. ولم تكن الحرية الوهمية وبالشكل دون الجوهر ما كانت تتوقعه الشبيبة المتعلمة في المدارس الحديثة.
وحينما انتظم حسين الرحال طالباً في مدرسة الحقوق في بغداد، شكل في عام 1924 ما كان بالفعل اول حلقة دراسية ماركسية في العراق، أو انه بث بالأحرى، اول العناصر الماركسية في تفكير جماعة ادبية شبابية تخلو معه في مناقشات مغلقة في غرفة داخلية من مسجد الحيدرخانة في بغداد. وكان من بين الاعضاء الاساسيين في الجماعة محمد سليم فتاح، طالب الطب ابن المسؤول السابق في الحكومة العثمانية، ومصطفى علي وهو معلم مدرسة وطالب حقوق وابن نجار، والرجل الذي اصبح في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم وزيراً للعدل، وعبد الله جادو الموظف في ادارة البريد والبرق وابن متعهد ثياب "اللنكه" وعوني بكر صدقي، وهو معلم وصحفي وابن مسؤول صغير اصبح في اواخر الخمسينات رئيس تحرير "صوت الاحرار" ذات الميول الشيوعية، ومحمود احمد السيد الذي كان ابرز من في الجماعة بفارق كبير.
وعبرت الجماعة الماركسية الجديدة عن تبلورها اول ما فعلت، عندما بدأت بنشر جريدة "الصحافة" بدءاً من 28 كانون الاول 1924. وكانت الجريدة جديدة في نوعها، والاولى معرفياً في عراق العشرينات. وخلافاً للصحف العراقية الاخرى لم تسع هذه الى كسب الرزق بل الى تغيير الناس. ولم يكن همها الاخبار بذاتها او انباء الفنانين، بل الافكار. وركزت الصحيفة على المشكلات الاجتماعية ولم تتعامل الا هامشياً مع الموضوعات السياسية. ولم تتردد في فترة كان التعبير فيها عن الرأي مشحوناً بالمخاطر، في مهاجمة المعتقدات والاحكام المسبقة المتأصلة في قلوب الناس. واعطت هذه الامور كلها جريدة "الصحافة" طابعا خاصا بها، وسجلت فتح منظورات جديدة في الحياة الذهنية.
وعلى الرغم من ان تبشير اعضائها بالماركسية كان واضحا، فان هذه الكلمة لم ترد، ولو مرة واحدة، في كتاباتهم مع انهم اعلنوا صراحة ان المادية التاريخية تشكل التفسير الافضل لعملية التاريخ، وهذا ما خدع الشرطة اليقظة وقليلة المعرفة في الوقت نفسه. وواضح ان معظم مفاهيمهم مأخوذة من مجلة "اخبار العمال" اللندنية ومن مقالات كان الرحال يترجمها عن صحيفة "لومانيتيه" الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الفرنسي.
ولم يكن الرحال وجماعته روادا في دعوتهم الى تحرير المرأة العراقية، بل ان الشاعر جميل صدقي الزهاوي اول من اطلق الدعوة، ولكنهم كانوا من جعل حركة تحرير المرأة تأخذ شكل الحملة، اذ تمت عقلنة الفكرة وتقديمها كمطلب من مطالب العملية التاريخية. وما من شك في ان توقيت هذه الحملة قد تأثر بالإنجازات النسائية المعاصرة في مصر تركيا. ولكن المثير للاهتمام هو العقلنة التي وظفت الى حد ما في تقديم اول حالة لاستعمال الفكر الماركسي في العراق.
لقد فتح موضوع حرية المرأة بمقال مبكر للرحال تحت عنوان "الحتمية في المجتمع" اعلن فيه ان لا وجود لنظام "طبيعي" او "خالد" بل على العكس من ذلك فان كل المؤسسات الاجتماعية هي مؤسسات انتقالية بطبيعتها. ووضع المرأة يخضع لهذا القانون العام. واضاف الرحال قائلاً: "ان العائلة العربية بوضعها الراهن جزء من بقايا ايام الاقطاع، واستنادا الى ذلك فان الحريم والحجاب هما من بصمات اخلاقيات الاقطاع. ولم تتمكن الارستقراطية من بناء دور الحريم وزج هذه الاعداد من النساء فيها الا عن طريق استغلال جهد الناس. وانتهى الرحال الى الدعوة الى الغاء الحجاب والى مساواة المرأة بالرجل، والنظر في رسم التاريخ.
ولم تثن عزيمة الرحال وجماعته ردود افعال التقليديين وسخريتهم المريرة من طروحاتهم في صحيفة "البدائع" الناطقة بلسانهم واصفين هذه "الدعوة الانثوية الجديدة بانها من صنع الفتيات البغداديات اللواتي ادخلت بجرأة آرائهن غير المنشورة على الشيوخ والافاضل". وكان رد الجماعة لهؤلاء اكثر سخرية وحصافة، وصرحوا بأنهم صاروا لا يعترفون الا بالأوضاع الانسانية والردود الانسانية. وأثارت جرأتهم المتزايدة حنق التقليديين الذين لم يتأخروا في التكشير عن انيابهم.
وسرعان ما وجدت جماعة الرحال الصغيرة نفسها محاطة بهيجان ناجم عن المرارة والامتعاض. وصاررت خطب ايام الجمعة في المساجد تصليهم ناراً حامية. واستنكرتهم المضابط "العرائض" الجماعية على اساس كونهم مرتع للكفر والالحاد، واسكت صوت الجماعة ولكنها عادت فسجلت نقطة لحسابها.
والواقع ان الجماعة لم تخضع وجرى تذكير بغداد بذلك بعودة "الصحافة" الى الظهور لفترة قصيرة بعد ذلك بسنتين في العام 1927. وقالت افتتاحيتها بلهجة الانتصار: "عدنا! ولم نلفظ نفسنا الاخير كما تصوروا!".
ولم يستكن الرحال خلال فترة انقطاع الجريدة، بل انه شن حربه بطرق اخرى بعد ان منع من الكتابة. وكان له دور اساسي في تأسيس "نادي التضامن" في اواسط عام 1926 وسرعان ما تورط النادي في احداث قضيتي انيس الصولي المعلم في مدرسة بغداد الثانوية وزيارة السير ألفريد موند الداعية المعروف للحركة الصهيونية، وهما قضيتان استفزتا مشاعر الطلبة والجماهير الشعبية، الامر الذي ادى الى قيام اول تظاهرتين عارمتين في تاريخ العراق السياسي، وهذا ما ادى الى اعتقال الرحال وفصله من كلية الحقوق. وهذه آخر صورة توافرت للرحال كثوري، لأنه بعد حل نادي التضامن في اعقاب هاتين القضيتين، وباستثناء ما افيد عن مراسلاته مع "العصبة المضادة للإمبريالية والقمع الاستعماري" مال الرحال الى الراحة واستسلم كلياً لحياة كسولة وروتينية.