تبدو اللعبة الشعرية عند الشاعر جبار الكواز قائمةً على ملاحقة خاصيّتين مهمّتين متلاصقتين في المعنى ومتقاربتين في التوصيف.. الأولى: اللعبة التأويلية التي تنتهجها النصوص.. والثانية: الاستدراك السردي الذي يسعى الى تبويب الملامح عبر سبيلين ايضا، هما الجملة الناهضة في عملية بثّ القصد وكذلك التكثيف الشعري في عملية استحصال التأويل.
الكواز الذي يسعى في مجموعته "ما أضيق الغابة.. ما أوسع الظلال!" منذ الغلاف الى الممازحة أو اللعب مع المتلقّي حين وضع المصمّم "ما" التعجبية واحدةً أمام الجملتين المنتهيتين بعلامتي تعجّب.. وكانه شارك الكواز البدء بلعبة التأويل مع المتلقّي.. ورغم إن الغلاف قد يختلف إذا ما تيسّر لهذه المجموعة الشعرية من طبعةٍ ثانيةٍ، فإن المغزى من "ما" التعجّب ستبقى تلاحق العنوان، خاصّة إذا ما عرفنا إن المجموعة عبارةٌ عن نصٍّ واحدٍ بثوب نصوص، أو نصوصٌ متعدّدةٌ بعلامات تفريق ما بين نصٍّ ونصٍّ.. أو نصوصٌ احتواها زمنٌ واحدٌ حيث نقرأ في أعلى الصفحة وعلى مدار صفحات المجموعة التي يصل عددها الى 141 صفحة كتب "من اوراق شانديز" حيث يذكر الكواز مغزى هذا العنوان الانزياحي أو الدلالي عن المكان بتوضيح وتأطير "كتبت النصوص في مصيف شانديز، مشهد، رمضان عام 2014" وهو ما يعني إن الزمن قد حدّد بشهر رمضان، ولذا فبالإمكان ملاحقة التدوين وزمنه ومكانه أو أمكنته الواقعية والذاكراتية من تفعيل المكان وتأويل النصوص.. حتى إن الربط بين مكان التدوين والإهداء الى " أم تميم " وهي المرأة التي تقف على اعتاب التجربة مشاركةً ومراقبةً وملهمةً كزوجةٍ وأمٍّ ورفيقةٍ قد يبدو الأمر فيه من اللعبة أيضا المغزى الكثير.
إن بنية الكتابة تتّضح حين نجمع التأويلات المبثوثة في قنوات النصوص التي تجعل الملقّي قادرًا على استمالة النصّ سواء ما استدرك بجعله نصًّا واحدًا متناسلًا الى الأفعال والمرادفات أو ما جعلها نصوصًا تنتظم في مجرىً ينساب دلالاتٍ ومعانيَ وبالتالي البحث عن لحظة القبض على التأويل وتصنيف القصد من خلال جمع بوّابات التلقّي التي تفضي دائما الى مرحلة التقاسم ما بين المتن الشعري والمتن التأويلي.. ما بين المنتج والمتلقّي.
إن هذه المجموعة التي تخلو من العناوين الداخلية خاصة وإن الكواز وهو يلعب لعبته ليس بجديدٍ على الشعر وإنتاجه هذا يأتي بعد تسع مجموعات شعريةٍ وواحدةٍ منها كتب عليها "نص" وهي تحمل عنوان "صعودا الى ثريا الانهار" فإن ذلك يعني أن هذه النصوص تنتظم بنسق القصد، لكنها لا تنتظم بنسق التأويل.. وتتفّق في جهد المكان وذاكرته ولا تنتظم في رصف الحيثيات التي تتمتّع بها العملية الإنتاجية لخاصية التدوين الشعري. لهذا نرى إن بنية الكتابة لديه لا تعمد في تبويبها على ما تمنح الجملة الفعلية أو الأسمية من خواص الشعر، بل في الكثير من الأحيان يكون استهلال النصوص بـ "لا" الناهية أو النافية أو الناصبة.. وقد يكون جسد النصّ طويلًا بعض الشيء يحمل علامات السرد الشعري أو يحمل علامات الومضة التي تحتاج الى إمساك التأويل:
" لا يغادر نادل البرق
الغيوم
إلا عندما يغني المطر "
وهنا يكون التأويل خاضعًا لاجتهاد المتلقّي، لكنه ايضا يشي بأن المستوى التأويل قابعٌ في ترتيب الأولويات، وما يمكن أن يصف النهي إلّا بعد الاستدراك، وهو مستوىً قصديٌّ ولا يكون إلّا بعد جمع الحاصل المناط بفهم المغزى وهو مستوى تحليلي.. فتكون هذه الكلمات الثمانية كافيةً لاستدراك المعنى، وبالتالي فهم اللعبة التي يراد ربطها بالواقع.. وهنا يكون المستوى الفلسفي قد برز بشكلٍ لافتٍ فلا تمكن مغادرة هذا النصّ أو المقطع الاستهلالي للمجموعة دون الخوض في غمار فلسفة الكواز اتجاه الكون كلّه، سواء ما يتّصل به مباشرة أو الزمان أو المكان أو الوقوف على المنطقة العالية للترصد.
ولأن التدوين في البنية الكتابية يخضع ليس لدلالات المستويات بل الى الفكرة التي يمكن أن تُعطي ملامح النصّ على إنه نصٌّ شعريٌّ وليس نصًّا سرديًا خاصة وإن الكواز يمتاز بهذه الخاصية التي تجمع السرد بالشعر لإشعال لحظة التأمّل بين ما هو شعري وما هو تأويلي حين يجعل في النصّ شخصيات ليس شرطًا أن تكون بملامح إنسانية، بل بما يتّصل بها لكي تكون قادرةً على اشعال الضوء.. لذا نجد في المقطع الثاني أو النصّ الثاني الذي فصل عن الأول في الصفحة ذاتها بثماني علامات ضرب "×" نجده قد ارتحل الى النصّ الطويل لأنه تطلب منه أن يكون كذلك.. فادخل الأمكنة والشخوص لتبيان الصراع، وهو عنصر الفعل الدرامي للحدث وهو بالتالي عنصر سردي:
"أسد بابل
لا عيادات أطباء الأسنان
رمّمت فكه المكسور
لا الشرطة حمته من النفايات
ولا الكمامات
انقذت أذنيه من ضجيج السوق
ولا المتحف دجّنه في
قارورة "فورمالين"
ولا الشط ذكره بكأس دهاق
فكيف يهابه المطر؟
وتخشاه الرعود؟
وتنام في مخدعه نجمة الصباح؟
ولماذا لم يزوّر جوازا؟
ويلتحق بغابات افريقيا"..
إن تكرار الـ " لا" في المقطعين أو النصّين يعطي دلالة استمرارية اللعبة في التكهّن بماهية المستوى الفلسفية الذي يرده الشاعر، المنتج، لكي تكون قاب قوسين من اصطياد التأويل.. فهو يمنح رسم المشهدية بطريقة السرد الذي يحمل السؤال، وبالتالي وجود السؤال وجود الصراع، ووجود الصراع حتمية وجود الفعل الدرامي، وبالتالي فإن السؤال هنا وهو ما تتشبّع به المجموعة من إبراز علامات قوّته، هو ليس لترك المتلقّي عملية البحث عن الأجوبة، بل ليتمكّن أيّ المتلقّي من صناعة أجوبته، هو مثلما يتركه يصنع أسئلةّ هو الآخر لتنيب عن لحظة التأمّل التي يمنحها النصّ بفعالية التمدّد نحو الأفق الآخر من الشعر.
إن بنية الكتابة في هذه المجموعة لا تحتكم الى منطقية الكتابة الشعرية فحسب، بل الى فلسفة المعنى.. حتى إنه في استهلال النصوص لا تكون لديه الجملة ثابتةً، ليس في خلل التمكن بقدر ما أرادها لعبة التدوين.. فهي تارةً تبدأ بلاءات ناهية أو نافية أو "لن" لمضارعٍ قادمٍ، أو تبدأ بصفاتٍ محدّدةٍ، أو بفعلٍ مشدودٍ بشخصيةٍ، أو بنهيٍ محكمٍ، أو تبدأ بجملةٍ إسمية قابضةٍ على السؤال، أو تبدأ بحرف جرٍّ، أو بعلامات استفهام السؤال، او تبدأ باقتناص لحظةِ حدثٍ يراد منه الوصول به الى منطقة التأويل عبر بوّابات المستويات الأخرى، سواء تلك الاخبارية أو التحليلية أو القصدية أو الفلسفية:
" لن اسجد لك
لن أعيذك "
" في
مقاهي الرصيف "
" حوار الموتى
في منتصف الاحلام "
"للهدهد نملته
للحمار اسفاره "
" لقد غرسوا
في ساحات المدينة "
" الذين لا ظل لهم "
"الوتر الوحيد
يتيم "
" قبل
غياب الشمس "
وهكذا فإن البنية الكتابية تترجم الخاصية التدوينية للشاعر.. فهو يريد تحويل نصوص الومضة أو الفكرة المختصرة أو التي تحمل معها بعدًا سرديًا أو مجموعة من الدلالات الآنية التي تخضع النصّ الى مرحلة التأويل للوصول الى مآل الفهم العام للنص.. فهو يضع أمام المتلقّي جملًا محكمةً، ربما فيها ألغازٌ مرّةً أو فيها تبويبٌ لفعلٍ مخبوءٍ، أو رصدٌ لفاعلٍ يترصّد الفعل، أو إنه يلجأ الى السؤال ليترك الإجابة في محطّة الانتظار:
"لماذا
تقص الشمس
ظلالنا في الظهيرة ؟"
" من قال أن الاسلاك الشائكة بدعة؟
وان الحروب نزهة الاغاني؟
وأن الأسود
يختصرها
اسد بابل؟"
في هذه الطريقة التدوينية الباحثة والباعثة على سرّ السؤال يكمن القصد، مثلما يكمن التأويل.. وهي ايضا قابعةٌ في النصوص الأخرى، سواء تلك التي تبدأ بلاءاتها المختلفة وهي كثيرة وكأن الشاعر أراد أن يصنع احتجاجه على ما حوله ويُسمع صوته من حوله، من خلال بثّ المعنى في المرحلة الشفاهية التي تلتقط المعاني من الطرقات لتحويلها الى نصٍّ شعري.
إن نهاية النصّ هي مَحكمَة التأويل وانفتاح المآل.. لذلك فإن النصوص القصيرة تكاد تكون في موجّهٍ فلسفيٍّ واحد سواء الاستهلال أو الخاتمة، لأنها تعنى بجمع المعاني من الجمل المشاركة في صناعة النصّ، فيما تكون النهاية في النصّ شبه الطويل أو إنه أطول من نصّ الومضة، هي محمول الدلالة التي تفضي الى البحث عن استكمال الأدوات.. فكلّ ما يجده المتلقّي شعرًا، وكلّ ما يقرأه سؤالًا سرديًا، وكلّ ما يمنحه قدرة التأويل لماهية الفكرة التي ربما هي أمامه ولا يجدها.. فقد تكون أمامه جملةٌ متعافيةٌ أو حكمةٌ ترتدي ثوب الشعر:
" حذارِ
حذارِ
من الدخول
في نفق قديم".

عرض مقالات: