ثمة معطيات مجدية وغير مثيرة للخيال عند دراسة المجتمع العراقي قبل بداية الحكم الملكي عام 1921. كان النسيج الاجتماعي للمدن او للولايات الثلاثة "بغداد – الموصل – البصرة" يتباين فيما بينها على اساس الاختلافات في وظائفها التاريخية او في ظروفها الطبيعية، بالرغم من امتلاكها ملامح مشتركة. وكثيرا ما قيل بعدم امكانية تطبيق التحليل الطبقي الاجتماعي الكلاسيكي، وهو تحليل يعتمد اساساً على كارل ماركس وماركس ويبر، على المجتمعات العربية في نمط انتاجها الآسيوي، وكثيرا ما قيل ايضا بأنه ليس في المجتمعات العربية "طبقات" وفي هذا تعميم يفتقر الى البرهان، وربما يعد امرا غير مقبول البتة من وجهة نظر البحث العلمي.
ومع ذلك، كانت مبادئ عدة للتراتب الاجتماعي تقوم بعملها في ذلك الزمن في بغداد نفسها، فإضافة الى هرمية الثروة كانت هنالك هرميات الدين، حيث كان المسلمون فوق المسيحيين واليهود والصابئة، مع هرميات الطائفة، وهرميات المجموعات الاثنية "العرقية" حيث الاتراك والمماليك "الكرج" فوق العرب والكرد والفارسيين. وكانت هناك هرميات السلطة ايضاً وهرمية المنزلة، اذ كانت المجموعات المسيطرة اجتماعياً تشمل الباشوات وكبار ضباطهم العسكريين ومساعيهم المدنيين و"السادة" الذين يدعون التحدر من سلالة الرسول، ورؤساء المذاهب الصوفية، وكبار علماء السنة الذين غالبا ما كانوا "سادة" ايضا و"الجلبيين" الذين كانوا تجارا من مراكز اجتماعية مرموقة.
في ظل هذه البنية الاجتماعية المتشابكة، كانت الثقافة العراقية الحديثة لم تعش ارهاصاتها الاولى بعد، إذ كان الادب في العراق في بدايات القرن العشرين يعيش على حطام العصور المظلمة في التاريخ، منذ غزو هولاكو لبغداد عام 1258 ولم يبرز او يتجلى الا البعض من الشعراء الاحيائيين امثال: محمد سعيد الحبوبي ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي ومحمد مهدي البصير ومحمد رضا الشبيبي. وتماشيا مع ذلك التراتب الاجتماعي لم ينبثق المسرح ايضا على الرغم من الزيارات المكوكية للفرق المسرحية الشامية والتركية والمصرية. ولم تكن ثمة موسيقى او غناء بالشكل المتعارف عليه عند البعض من دول الجوار، وهو ما دعا الملا عثمان الموصلي الى الهجرة للقاهرة في اواخر القرن التاسع عشر ليلازم ويرشد اقطاب الغناء المصري وقتذاك، امثال: عبدو الحامولي والشيخ ابو العلا وسيد درويش. اما فن الرسم وما يرافقه من فنون تشكيلية اخرى كالنحت والخزف فكان في درجة الصفر المطلق، وبديله المعروف يتمثل بالفنون اليدوية الشعبية كالمصوغات والنحاسيات والسجاد واعمال النجارة.
ولعل خير ما كان ينتج في اواخر العهد العثماني في العراق هو كتب الادعية الدينية المسماة كتب "دلائل الخيرات" التي كان الاتراك كما يبدو يحبذون قراءتها وتداولها، وكذلك المجتمع البغدادي من المسلمين، حينما كان الخطاطون وقتذاك يضمنون هذه الكتب برسوم مناظر مكة والحرم الشريف، وفي وسطها الكعبة ثم منظر المدينة المنورة ومسجد الرسول، وهي على العموم رسوم تخضع الى مبدأ "المحاكاة" وكأنها تمثل الواقع المرئي من خلال العناية بالمنظور الجوي البعيد، وطمس البعد الثالث بالمرة او تقليل دوره في الاقل كما كانت تقضي التقاليد الفنية الاسلامية السابقة التي تحرم "التجسيد".
ومن اشهر الرسامين- الخطاطين في ذلك الزمن الشيخ نيازي مولوي بغدادي وابراهيم الشرقي وتلميذه حافظ علي بن محمد، كما ورد لدينا في ادبيات تاريخ الفن التشكيلي في العراق. ولم يكن الرسم وقتذاك معروفا بأشكال مصغرة أو نمنمات حسب، بل كان معروفاً ايضا في الرسوم الجدارية ورسوم ما تحت الزجاج او في الرسوم المطبوعة او المطرزة على القماش، وهي في جميع الاحوال تعتبر استمراراً للنسق الفكري المحلي الممتزج بتأثيرات فارسية وتركية، من حيث الشكل والمضمون على حد سواء.
عبد القادر الرسام وجيله
ويجتازنا الزمن ولا نجتازه، يمر بنا ولا نمر عليه، وحين يمر بنا لا نستطيع ان نوقفه، او نلتقط لحظة منه نحيا فيها بشكل سرمدي بلا ابتداء او انقطاع ولا انتهاء، غاية ما نستطيع ان نضع احداثه في ارشيف الزمن، حينها نستطيع ان نمر على الزمن كلما جنّ علينا الضباب.
التاريخ: يوم مجهول من ايام 1940
المكان: بيت الفنان جواد سليم – بغداد
المصدر: جريدة "الاستقلال" البغدادية من دون تحقيق استقصائي مكين معزز بالتفاصيل والتواريخ الملزمة.
الحدث: عودة الفنان جواد سليم من روما بعد ان قطع دراسته الفنية بسبب دخول ايطاليا الحرب الى جانب المانيا في الحرب العالمية الثانية، فانخرط بالعمل في المتحف العراقي لصيانة الآثار تحت اشراف ساطع الحصري. ولكنه كان يلمس اهتمام المثقفين العراقيين في احترام بعض النماذج القليلة من رواد الرسم العراقي، فوجد في عبد القادر الرسام نقطة انطلاق هامة في هذا المجال، على غرار ما فعله بيكاسو حينما احتفل بشخصية الفنان الفرنسي الرائد "لو دوانيه روسو" في مطلع القرن العشرين في بيته هو واصدقاؤه من الشباب الرسامين الباريسيين.
وهكذا تجول الحاضرون بين غرف دار الفنان جواد سليم للاطلاع على اعماله الفنية الجديدة من تماثيل ورسوم، ومن بديع المصادفات ان كانت في الدار رسوم الاستاذ الرائد عبد القادر الرسام التي لفتت انظار الحاضرين بدقة صنعها وبديع الوانها، طالما ان المحتفى به كان في صدارة الموجودين برفقة الفنان الرائد ايضا الحاج محمد سليم وجمهرة من الفنانين والمثقفين المعروفين في ذلك الزمن، امثال شوكت الرسام واكرم شكري وسعاد سليم والآنستين مائدة الحيدري وناهدة الحيدري.
والواقع ان هذه الاحتفالية المصغرة للفنان عبد القادر الرسام هي التي لفتت الانظار اليه كرائد ومؤسس للرسم العراقي الحديث، والتعرف ايضا على اقرانه من الجيل ذاته ، امثال الحاج محمد سليم "والد رشاد وسعاد وجواد ونزيهة ونزار" مع عاصم عبد الحافظ ومحمد صالح زكي. ويفهم من ثقافة هؤلاء الرسامين الاوائل جميعاً، بأن مزاولتهم الرسم تعد جزءا ملزماً من دراستهم العسكرية في "الاستانة" حينما كان يفترض من هؤلاء الرسامين ان يختصوا برسم المشاهد التي يمرون عليها كجزء من مهماتهم الوظيفية العسكرية.
لقد انجز عبد القادر الرسام مواضيع تعتمد معظمها على المناظر الطبيعية، وقليلا من الصور الشخصية "بورتريهات" او مشاهد الخيول واخرى لمواضيع الآثار، وهي ذات قيمة سياحية ان لم تكن تسجيلا تخص الخدمة. واذكر شخصيا ان متحف الفنانين الرواد في شارع الرشيد "حاليا منتدى المسرح العراقي" كان له إضمامة طيبة من لوحات وتخطيطات هذا الفنان الرائد، تربو على "72" بالتوثيق الرسمي. ترى، هل هي الآن موجودة في ارشيف دائرة الفنون التشكيلية ام تراها ضاعت وضيعت بعد احداث الاحتلال الامريكي في 9 نيسان 2003؟
وعلى خطى عبد القادر الرسام انتهج الحاج محمد سليم المشروع الريادي ذاته ، حتى وان كانت قابلياته قد تجاوزت فن الهندسة بحكم تخصصه في الجيش العثماني، متفرغا للرسم والتصميم والتأليف المسرحي، فكان ذا ذائقة موسوعية اهلته ان يكون مربياً فنياً، بعد ان امتهن التدريس في مدرستي التفيض والجعفرية الاهليتين، بل هو المعلم الاول لأبنائه الخمسة المذكورين كرسامين وفنانين متعددي المواهب.
ومن جيل عبد القادر الرسام ايضاً، الفنان عاصم عبد الحافظ الذي تخصص في رسوم الحياة الجامدة، المناهض للتشخيص او تجسيد البشر، معللا ذلك كما قيل بموقف الدين الاسلامي من الفن. ولهذا الفنان اول اصدار فني نظري في العراق، ضمنه كتابه "دروس الرسم للتطبيق على الطبيعة" موجّه لطلبة المدارس الثانوية. ولأنه من مواليد الموصل عام 1886 ومفتون بحب الطبيعة، فأنه استبطن بذرة الانتماء الى الطبيعة الصخرية التي تتجاوز القرميد والقاشاني الى حجر الحلان والمرمر، فكان تأثيره ملموساً على الفنانين نجيب يونس وراكان دبدوب اللذين مثلا معاً رسالة الحافظ في الفن الموصلي الخاص بالتراث والفلكلور والتجريد.
واخيرا يبرز الفنان الرائد محمد صالح زكي من الجيل ذاته وخاتمة مطافه، وهو عسكري ايضاً، ومن خريجي دار الفنون الجميلة في اسطنبول وكان متخصصا في بداياته برسم الصور الشخصية. ولكنه ركز اهتمامه آخر الامر على رسوم المناظر الطبيعية والجماد. وكان تأثير هذا الفنان واضحا على ولده الفنان زيد محمد صالح الذي رافق مسيرة الفنان الكبير فائق حسن في جماعته الاولى "البدائيين" التي تحولت فيما بعد الى جماعة "الرواد" فضلا عن تأثيره ايضا على الفنان المبدع كاظم حيدر، الذي يعده بمقام المعلم الاول، كما جاء في اهداء كتابه "التخطيط والالوان" الصادر عن وزارة التعليم العالي في بغداد في ثمانينات القرن الماضي.

بين الاختلاف والائتلاف

ها نحن قد سلخنا اكثر من عقدين ونصف العقد من القرن العشرين في استعراض جيل عبد القادر الرسام الذي مثل الريادة والتأسيس لفن الرسم في العراق، قبل ان يوفد الفنان اكرم شكري عام 1931 كأول مبعوث عراقي لدراسة الفن في لندن، ثم فائق حسن عام 1935 الى باريس، وجواد سليم عام 1938 الى روما. فماذا نطلق على بقية الفنانين الذين تلوا الجيل الريادي المذكور؟ هل هم جيل ضائع ام هم جيل ما بعد الرواية، ام هم محض افراد او جماعات لم تتبلور قابلياتهم الكامنة للتعبير بالأساليب الحديثة او البدء برسم الشخصية الحضارية في العمل الفني؟
حقاً، ان مصطلح الاجيال غير مستحب وربما غير مستساغ في المشهد التشكيلي العراقي، بعد ان كرس لدينا ولسنوات طويلة في المشهدين الشعري والقصصي على الرغم من الاعتراضات الكثيرة التي انصبت عليه. بل ان مصطلح التجييل الزمني قد عاش ارهاصاً مثيرا مع المسرحيين العراقيين حتى استكان اخيرا بما يعرف بـ "جيل الرواد/ جيل ما بعد الرواد/ الجيل الثالث".
بعد كل هذه الاسئلة واشكالية الامثلة التي طرحناها، ماذا نسمي قبيلة الرسامين او الفنانين التشكيليين الذين تبعوا عبد القادر الرسام ورهطه بعد سنوات من انتهاء مرحلتهم، ومنهم: شوكت سليمان الخفاف، عبد الكريم محمود، ناصر عوني، محمد خضر، عطا صبري، حافظ الدروبي، عيسى حنا، صديق احمد، وغيرهم الكثير؟!
أترانا نكون حقيقيين وصادقين ومكتفين حينما نخلع صفة الجماعات الفنية على افراد التشكيل في العراق منذ تأسيس طلائعها الاولى عام 1941 باسم "اصدقاء الفن" كما اسلفنا ونشطب على بقية الاسماء التي سبقت هذه الجماعة بأكثر من عقدين من السنين؟!
قد اختلف مع اخواني التشكيليين في عدم استجابتهم لمصطلح الاجيال او العقود الزمنية ولكنني احترم خياراتهم، فالاختلاف لا يمنع الائتلاف، الاختلاف لا يحض على الكراهية، الاختلاف لا يضرب على يد المروءة.