"ما لم تمسسه النار" رواية السارد الكبير عبد الخالق الركابي، شكلت عبر معمارها الروائي وموضوعتها الانسانية، اضافة كبيرة الى الكتب التي مست من قريب أو من بعيد خرائط الوجع العراقي وتفاصيله الاسطورية، تمكن الركابي وبحرفية عالية ومن الصفحة الاولى من سحب القارئ، مستدرجا إياه نحو تفاصيل ومتاهات وجع كبير أمتد عبر 11 فصلا هي كل ما احتواه "الدفتر الاسود" الذي كتبه "نديم اسكندر بيك" الشخصية المحورية في الرواية، الشخصية التي تحتمل الكثير من التأويلات، فهو نموذج للانسان الذي يتعرض الى ضغوط حياتيه لايستطيع احتمالها مما تجعله نزيلاً في مستشفى الامراض النفسية "الشماعية تحديدا" كتبت بعناية بعين السارد الخارجي التي تحولت الى كاميرا رصدت أدق الحالات النفسية ويوميات الجنون المطبق المؤدي الى نوبات الصرع المتوارثة ، فضلا عن11 فصلا كتبها الراوي بضمير المتكلم ... هذا التنوع والانتقالات من صيغة السارد الخارجي والمتكلم الذي نجد انفسنا وسط أعقد حقبة تاريخية مر بها الوطن، والتي تتلخص في إيجاد وصف دقيق للإجابة على سؤال كبير ومهم وعميق " ما الذي فعلته الحرب بنا؟.. وما الذي فعله الحصار بحياة الناس؟" ووسط كل هذا نجد انفسنا نتوغل عميقا في مساحات زمنية ننتقل بين الماضي و الحاضر عبر شخصيات رئيسة كان لها اثرها الكبير في احداث الرواية وتوظيف المكان " مدينة بدرة " وحياة المنفيين .. وكلهم من اليسار العراقي المثقف لنجدهم نزلاء مستشفى الشماعية، رواد شارع المتنبي، رواد مقهى حسن عجمي .. الكثير من الشخصيات، شخصية الأب اسكندر بيك والعلوية الام وعاهرات ومجانين.. كل هذا تناوب في سرده روائيان يسردان وبتداخل عجيب رواية كل منهم برواية الاخر.. نجح عبد الخالق الركابي في امساك هذا "الميتافكشن " السردي وبنى عليه معمار روايته التي لاأريد أن اتحدث عن ثيمتها ... فهي تحفة فنية عالية المستوى.. كتبت باحترافية وتجميع مقنع لخيوط السرد فيها بإحكام وغزلها بحياكة ومعمار روائي دقيق . حتى اللغة ما بين "الميتافكشن" اعني احداث الدفتر الاسود، ولغة الراوي بضمير المتكلم هناك تناغم كبير بينهما.. ونحن نخوض معهما في مجاهل وطرقات مستشفى الشماعية الذي هرب نزلاؤه من الموت المحتم حولهم .. وصولا الى الفصل الرقم 11 الذي يكتبه "نديم" حيث النهاية المفترضة والقليل الباقي من الدفتر الاسود الذي احرقه قبل أن ينتحر.. والذي بقي منه القليل.. القليل مما لم تمسسه النار حيث توج الرواية بهذا العنوان الذي كان موفقا جدا في وصفه العذاب العراقي في اقسى الحقب التي تركت اثرها على مفاصل الحياة اليومية للناس.

عرض مقالات: