في رواية "أبناء الماء" للكاتب عواد علي جاء البناء الفني لمسار السرد محلقا في فضاء رواية ما بعد القص، حيث تزاح الحدود ما بين الخيال والواقع في بنية النص، ليمارس المؤلف فعل التعرية وكشف أسرار الكتابة بالشكل الذي يضع المتلقي امام خفايا العالم الذي نسج خيوطه، لأجل أن يمارس القارئ دوره في هذه اللعبة المكشوفة وهو في حالة من اليقظة الممتعة بعد ان ازيحت من امامه الحدود التي تفصل ما بين الواقع والمتخيل، فالاثنان يتبادلان الادوار "الواقع والمتخيّل" فما هو متخيل ينتقل الى منطقة الواقعي وما هو واقعي ينتقل الى منطقة المتخيل، وهذا ما ينطبق تماما على شخصيات الرواية التي تمارس دورها في توجيه الاحداث وفقا لرؤيتها التي تتعارض مع رؤية المؤلف، الذي لا يجد مفرا من الخضوع لها، وبذلك لم تعد شخصيات متخيلة انما شخصيات واقعية "ولما انهيتُ كتابتها عرضتُها عليهم لقراءتها، فاعترض اربعة منهم على تلاعبي بالاحداث وعدم حياديتي، واشترطوا ان انشر تنبيها بأسمائهم فوافقت على الفور دون مناقشة".
لعل ابرز ما في بنية هذه الرواية تعددية الاصوات الساردة للأحداث، حيث منح المؤلف جميع الشخصيات الرئيسة فرصة ان تتولى سرد الاحداث التي مرت بها. ولأجل تمرير هذه اللعبة استخدم تقانة المذكرات الذاتية التي تناوبت شخصيات الرواية على كتابتها.

ما بعد القص

يستتر المؤلف الاصلي خلف قناع المؤلف الضمني لكي يواصل لعبته القائمة على تحطيم عالم التخييل الروائي والحاق القارئ في عملية تواصل حقيقي مع الشخصيات باعتبارهم حيوات واقعية وليست متخيلة، حيث يشير في ملاحظة تنبيه مبكرة وجهها الى القارئ على لسان جميع الشخصيات الرئيسة قبل ان يباشر في سرد احداث الرواية، "نحن: افرام جبرائيل، تيريزا صليبا، سامان الجاف، مهدي انصاريان نلفت انتباه قراء هذه الرواية الى ان اغلب ما وضعه مؤلفها على السنتنا قد حرفه عن الاصول التي دوناها له بطلب منه وهي موثقة عندنا ومن يرغب في الاطلاع عليها الاتصال بنا بواسطة البريد الالكتروني او وسائل التواصل الاجتماعي لنزوده بها وإلا فنحن لا نتحمل مسؤولية الفصول التي تحمل اسماءنا". بهذا التنبيه الذي جرّد المؤلف من سلطته على نصه لصالح شخصيات الرواية يكون المؤلف الاصلي قد وضع القارئ في عالم متخيّل على انه عالم واقعي أو عالم واقعي على انه متخيل، وفي الحالتين ليس هناك من فرق.. وحسب الناقدة "باتريشيا واو فإن هذا التكنيك يأتي في اطار بناء رواية عن الرواية وعلى ان اسلوب ما وراء القص ما هو إلاّ "كتابة رواية تُلفت الانتباه بانتظام ووعي الى كونها صناعة بشرية لتثير اسئلة عن العلاقة بين الرواية والحقيقة".
إن اختفاء المؤلف السارد وراء قناع شخصية المؤلف الضمني السارد للأحداث تأتي هنا في اطار محاولته إدخالنا لعبته التي حاك خيوطها باتقان، "حين خططتُ لكتابة هذه الرواية كنتُ عازما على حماية نفسي من إثم الكذب بأن اتوارى خلف احداثها واترك للراوي سردها بضمير الغائب ينسج خيوطها وفقا لما تمليه عليه مخيلته ويحرك شخوصها كما يشاء لا كما يشاؤون هم، موظفا مدوناتهم التي ادعّوا انهم وثقوا فيها احداثا عاشوها حقيقة. لكني نزولا عند رغبتهم غيرت خطتي وتركتهم يسردون فصولها بأنفسهم".
هذا الاسلوب الذي ارتكز عليه عواد علي في بنية النص يأتي متوافقا مع سعيه الى ايصال حقيقة الوقائع التي عاشتها شخصيات الرواية على اعتبار انهم شخصيات واقعية وليست متخيلة.
نحن اذن امام عمل سردي يستجيب في تقانات صنعته الى شرط "الانعكاسية الذاتية او وعي الرواية بكونها تركيبا خياليا"، وبقدر ما يضعنا النص امام تجربة سردية تكشف لنا خفايا تركيبتها الفنية، فهي تتصدى لواقع عراقي بات لا إنسانيا بهدف تعريته وفضح آليات وحشيته.

تقانة المدوَّنات

اعتمد المؤلف على صيغة المدونة الذاتية كوحدة فنية في سرد المتن وتشكيل المبنى الحكائي، حيث تَطلبُ المدرِّسةُ الافغانية "زهرة خان" في نهاية الفصل الدراسي الاول من جميع اللاجئين الذين تدرِّسهم أن يكتبوا قصص الاضطهاد التي تعرضوا لها في بلدانهم، وابلغتهم ضرورة ان ينجزوها خلال فترة شهر واحد، وأن المدرسة قد خصصت جوائز ثمينة لأفضل ثلاث قصص مؤثرة وبليغة. فشرع كل واحد منهم في كتابة قصته بطريقته الخاصة، وبما ان القصة التي كتبها اللاجئ الصابئي "ميران السبتي" الشخصية المحورية في هذه الرواية هي التي فازت بالجائزة الاولى فقد ابتدأ بها المؤلف عواد علي مخطوطة روايته "لا يوجد في داخلي سوى الصقيع.. دوَّنت هذه العبارة في يومياتي وانا في المرحلة الاولى من دراستي الجامعية، استعذبتها فظلت عالقة في ذهني مدة طويلة مثل نغمة جميلة".
إن زاوية الرؤية او وجهة النظر "التبئير" هي التي تُقنِّنُ الشكل الفني للبناء السردي، وفي هذا العمل سنكون ازاء فضاء روائي اعاد المؤلف من خلاله الصلة مع الدراما اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار انه قد ركز في بنية الرواية على الزمن والشخصية وهذه من خواص الرواية الدرامية حسب ما يؤكد على ذلك الناقد ادوين موير، كما لجأ الى تحييد صوته ما أنْ مَوضَعَه وراء الاصوات الساردة لتتقدم هذه الاصوات وكأنها شخصيات مسرحية تعبِّر عن نفسها بطريقة الفعل الدرامي بتلقائيته ومباشرته امام الجمهور، من غير ان يتدخل المؤلف بشكل مباشر بأفكاره.

المتن الحكائي

مِيران السبتي الذي يكتب الشعر، يستدعي في قصته الفائزة احداثا مخزونة في ذاكرته تبدأ من لحظة لقائه داخل المَنْدِي "المعبد" الخاص بطائفة الصابئة المندائيين بالأم "تيريزا" الراهبة التي فازت بجائزة نوبل للسلام نتيجة الخدمات الكبيرة التي قدمتها للفقراء خاصة في القارة الهندية، إذ يلتقي بها اثناء زيارتها العاصمة العراقية بغداد عام 1991، ثم يستدعي من الذاكرة علاقته الحميمة مع الفتاة المسلمة ابنة الجيران، وليتوقف عند الفترة التي وقع فيها العراق تحت الاحتلال الاميركي عام 2003 وكان من نتائجه تعرّض الطائفة الصابئية مع بقية الاقليات والطوائف الدينية للتهديد بالقتل او التهجير، ووسط هذا الظرف يُختطف والده وشقيقه ومن ثم يتم قتلهما وهذا ما يدفعه الى ان يغادر العراق مع والدته وشقيقته باتجاه الاردن وهناك في مكتب الامم المتحدة لشؤون اللاجئين يلتقي "تيريزا" الفتاة المسيحية التي تعزف على آلتي الكمان والبيانو والهاربة من الموصل مع خطيبها "افرام" ووالدتها "سارة" مدرسة اللغة الانكليزية واخويها الأصغر منها "بهنام وفاديا" من بعد ان تعرَّض والدها "بولص صليبا" الذي يحمل شهادة عليا في الفلسفة واللاهوت من جامعة اثينا الى الخطف ومن ثم القتل مع آخرين امام باب الكنيسة بعد خروجهم من القداس.. تتشكل صداقة قوية بين "تيريزا" وعائلتها مع "ميران" وعائلته وصديقه "يوسف" الصحفي الشيوعي الذي يحمل شهادة بكالوريوس في الادب الانكليزي والذي هرب هو الآخر من العراق بعد ان تعرض للتهديد بالقتل من قبل الميليشيات نتيجة نشره لمقال لا يتفق مع قناعاتها في صحيفة "طريق الشعب"، ومن ثم تتعمق هذه الصداقة العائلية بشكل اكبر بعد ان شاء الحظ ان توافق الحكومة الكندية على توطينهم جميعا في العاصمة "اتوا" وهناك في كندا تكتمل دائرة العلاقات مع اكتمال شخوص الرواية، فيلتقي "ميران السبتي" ببقية الشخصيات وكلهم من اللاجئين: "إيهان ساسون" السورية اليهودية من ام تركمانية والتي يقع الصحفي يوسف في حبها حتى بعد ان اخبرته بانها قد سبق لها ان عملت راقصة تعرّي في النوادي الليلة وارتبطت بزواج عرفي مع ثري عربي من اجل ان تجمع ما يكفيها من المال حتى تكمل دراستها الجامعية.. "ايجون" الشابة الاذربيجانية الزرادشتية التي تنشأ بينها وبين ميران السَّبتي قصة حب تتوج بالزواج الاّ انه ينتهي بالفشل بسبب جشع والدتها التي كانت في يوم ما ممثلة مشهورة في بلدها الاصلي.. "سامان" الشاب الكردي العراقي الذي يحمل شهادة ماجستير في الترجمة والمتخصص في اشكاليات ترجمة الشعر والذي جاء لاجئا الى كندا بعد نجاته من عمليات الأنفال التي قام بها الجيش العراقي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي ضد الاكراد وبسببها قُتِل عدد من افراد اسرته ومن ضمنهم حبيبته شيلان "مِن بين أعزّ مَن فقدتهم في ذلك الهجوم حبيبتي شيلان… لم تقتل شيلان بسلاح المهاجمين، بل انتحرت عندما اغتصبها احد المرتزقة امام اهلها واقاربها، فقد قتل بعضهم واعتقل بعضهم الآخر".
مع تعدد الشخصيات وتنوع هوياتهم وحكاياتهم نقف امام سرد متوال يشظى فيه الزمن وهو ينتقل من حدث الى آخر معبأ بشهادات انسانية ضد ازمنة وانظمة سعت الى ان تشوه ملامح الانسان من بعد ان تقتلعه من جذوره الدافئة، ومع ذلك تبدو نظرة التفاؤل لدى عواد علي اقرب الى المثالية، وهذا ما يمكن ملاحظته في اكثر موضع في الرواية، على سبيل المثال وجدناه في حديث الشابة المسيحية "تيريزا" عن موقف والدها وهو يصف حال المسيحيين بعد الاحتلال الاميركي للعراق خاصة بعد ان افرج عنه الخاطفون المتشددون وامهلوه مدة اسبوع لكي يغادر هو وعائلته المدينة "في تلك الليلة التي لم نَنَم فيها حتى الصباح، هيمن علينا شعوران متناقضان، غبطتنا برجوع ابي سالما، وخوفنا مما سيؤول اليه مصيرنا إذا غادرنا الموصل، وأتذكر ان أبي شبَّه يومها محنتنا بمحنة مسلمي الاندلس بعد سقوط دولتهم في غرناطة، هؤلاء الذين خيّروا بين امرين لا ثالث لهما: إمَّا التنّصر وإمَّا الطرد خارج اسبانيا".
استنادا الى استراتيجية البوح الذاتي عبر القصص التي دونتها شخصيات الرواية يتوغل السرد وبصيغة ضمير المتكلم في بقع داكنة ذاتية من حياتها تفتح نافذة واسعة على تراجيديا الحياة العراقية خلال العقود الاربعة الاخيرة التي مرت على هذا البلد وما شهده من حروب طويلة مهلكة وصراعات سياسية داخلية دموية دفع ثمنها العراقيون جميعا بكافة انتماءاتهم العرقية والدينية.
ورغم أن جميع شخصيات الرواية كانوا لاجئين ينتمون الى جنسيات واديان وقوميات مختلفة سبق ان تعرضوا الى تجارب قاسية في بلدانهم شكلت خطرا وتهديدا على حياتهم فغادروها مرغمين ليجمعهم المنفى الكندي إلاّ ان المؤلف وعلى ما يبدو سعى الى ان يبعث لوطنه برسالة قاسية في محبتها، من بعد ان تشظى ابناؤه في ارجاء المعمورة وفي المقدمة منهم ابناء الطبقة الوسطى فكان خروجهم نزيفا مرعبا افرغ العراق من نخبه المثقفة والمتعلمة بكافة هوياتهم الاثنية والدينية.