لعل من أدق التوصيفات التي يمكن أنْ تطلق على فالح عبد الجبار كقامة شامخة في مجال علم الاجتماع عموماً وعلم الاجتماع العراقي خصوصاً أنّه عالم اجتماع ماركسي بامتياز. ويأتي وصفه بهذا الشكل ليس فقط لأغراض الدقة وهذه حقيقة يمكن تلمس حضورها بوضوح في كل أعماله بما فيها التراجم التي قام بها أو التي كلف آخرين بالقيام بها وإنّما أيضاً لتمييزه عن عالم الاجتماع العراقي الأبرز حتى ظهور عبد الجبار وهو الدكتور علي الوردي. فالوردي عالم اجتماع عراقي تحرري ديموقراطي تنويري مدني أثرى المكتبة والوعي الجمعي العراقي بتحليلات ملهمة ووجهات نظر غير مألوفة للتأمل في واقع المجتمع والظواهر الطارئة فيه. أما عبد الجبار فمفكر ماركسي مختلف من حيث التوجهات النظرية والقناعات العلمية وهذا ما يضعه في خانة موازية للوردي وليس إمتداداً له. اختار عبد الجبار التخصص في علم الاجتماع السياسي ليتفكر في أحدث ما وصلنا منه بحثه الموسوم "دولة بلا أمة – أمة بلا دولة: مقترحات للخروج من الأزمة الدائرية نحو المصالحة الشاملة"، والذي عرض له تفصيلاً في محاضرة ألقاها في قاعة الجواهري في الإتحاد العام لأدباء وكتّاب العراق قبل أسابيع من قدره المحتوم. يبقى أنْ نلاحظ أنّ ماركسية عبد الجبار من نوع "الماركسية الأكاديمية" بمعنى أنّها ماركسية منزوعة من التحيزات السياسية والالتزامات الأيديولوجية بقدر تعلق الأمر بالعمل البحثي المنجز. فهو لا يتشدد في تبني المفهومات والأفكار الماركسية التقليدية أو التي حملت من قبل عامة القراء على محمل سياسي أو أيديولوجي معين. وهو يتقبل الانتقادات بصدر رحب شريطة أنْ يكون الرد مبرراً من النواحي العلمية والواقعية وبالدليل والحجة الملموسة والقابلة للفحص والنظر والقياس. وهو يدعو إلى الانفتاح لدمج واستخدام أي فكرة يمكن أنْ تخدم غرض البحث وتشجع على التوصل الى فهم أفضل وأوسع دون عزلها أو إهمالها بمبررات أيديولوجية. فكل الأفكار يمكن أنْ تؤخذ بالإعتبار لتكون مادة لمشروع نظري جديد. علينا أنْ نتذكر ابتداءً تنوع مصادر الفكر الماركسي التي لم تتوقف عند حدود معينة. فقد قرأ ماركس كتاب ثروة الأمم لآدم سمث ودرس الاقتصاد الإنكليزي واستفاد من الدراسات الأنثروبولوجية الميدانية الرائدة للويس مورغان حول مجتمعات السكان الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية التي تقوم على نظام القرابة ليبني عليها كتابه المعروف "أصل العائلة". ودرس الفلسفة الألمانية وأتقنها وأخذ من الفرنسيين نظريات التحليل النفسي.
يدرك عبد الجبار جيداً أنّ ما كتبه كارل ماركس وبخاصة في كتاب "رأس المال"، قبل ما يقرب من مائة وخمسين عاماً لم يعد ليثبت ويصمد في مواجهة العديد من التغيرات البنيوية التي طرأت على مستوى النظام الاقتصادي العالمي والمجتمع الإنساني على وجه العموم كما في التحول من الاقتصاد الصناعي إلى اقتصاد الخدمات وظهور طبقة المدراء التنفيذيين وتنوع الفئات الاجتماعية مما يصعّب مهمة التعامل مع المجتمع كما لو كان كتلة يمكن التعميم عليها. وهذا ما تطلب بنظره إعادة النظر وتطوير مقاربات تمكن من ملاحقة الواقع وليس العكس. يذكّر فالح عبد الجبار بالمنهج الماركسي في كتابه "ما بعد ماركس" (2015) في طبعته الثانية أنّ علينا "أنْ لا نقارن الفكرة بالفكرة بل نقارن الفكرة بالواقع" من أجل أنْ نكون قادرين على ملاحقته ومعايشته وليس الانسحاب والتقوقع بعيداً عنه. يذكر أنّ فالح عبد الجبار قدم أحدث ترجمة لكتاب رأس المال استغرقت منه فترة أكثر من عشر سنوات من العمل الدؤوب والمتواصل لإنجازه.
من جانب آخر يلاحظ أنّ الماركسية الأكاديمية منزوعة التحيزات السياسية والالتزامات الأيديولوجية والمنفتحة على كل التوجهات والأفكار العلمية لا تعني غياب الموقف الأدبي والأخلاقي للباحث. فالدكتور فالح عبد الجبار ملتزم بقضايا المجتمع متضامن معها حريص على التفاعل المتواصل بها كما يستدل على ذلك من خلال مشاركاته الشخصية المباشرة في نشاطات الحركة الإحتجاجية التي أخذت مكانها بدأب منذ سنوات في ساحة التحرير ببغداد إلى جانب ما ينقله أصدقاؤه ورفاقه حول مشاركته في حركة الأنصار التي قادها الحزب الشيوعي العراقي لمناهضة النظام الدكتاتوري قبل 2003. بيد أنّ الباحث المدرب والمؤهل يستطيع ممارسة ما يكفي من الضبط الذاتي ليمارس العمل البحثي دون أنْ يسمح لمواقفه السياسية والأيديولوجية بالظهور وبما يؤثر على مستوى أدائه العلمي والبحثي. يشير فالح عبد الجبار إلى أزمة الجدالات النصية و"الصنمية" على حد تعبيره بشأن الفكر الماركسي في الكتاب المذكور وميلها إلى التحجر والجمود العقائدي على أنّها أزمة عربية وليست عالمية. فقد تقدم المشتغلون في مجالات الفكر الاجتماعي في الجامعات الغربية إلى تطوير أفكار مهمة حررته من عقبات التطور وكذلك فعل المشتغلون في مجالات الفكر والثقافة في عدد من الدول الأوروبية الإشتراكية وبخاصة بعد سقوط الأنظمة الشيوعية التي كانت قائمة فيها. الا أنّ الأوساط العربية ظلت وفية كما يلمّح فالح عبد الجبار إلى نزعاتها "الإيمانية" بالفكر الماركسي وهو ما يتوجب التحرر منه. فقد جادل علماء من أمثال بيتر بلاو على أنّ تغيراً قد طرأ على مستوى أصحاب رؤوس الأموال ممن لم يعودوا الفاعلين المؤثرين العمليين في حركة الإنتاج نتيجة ظهور طبقة المدراء التنفيذيين والموظفين المهنيين ممن يطلق عليهم "التكنوقراط". أصبح هؤلاء الفاعل الأكثر تاثيراً من خلال قيادتهم حركة الإنتاج وتحملهم مسؤولية وضع السياسات والبرامج التطبيقية اللازمة واتخاذ القرارات الحاسمة.
واقترح رالف داهرندورف فكرة "السلطة" كبديل لفكرة "الطبقة" الاجتماعية لدى ماركس باعتبارها العامل الأكثر أهمية للتغيير. فأصحاب السلطة من طبقة المسؤولين التنفيذيين هم الذين يمارسون التأثير المباشر بحركة المجتمع وليس مالكوا وسائل الإنتاج ممن لا يمارسون العمل الإداري ويتخذون القرارات بصورة مباشرة. يقوم الصراع بنظر داهرندورف بين طبقتين رئيستين هما طبقة أصحاب السلطة المحددة بالصلاحيات التنفيذية من جانب وأولئك الذين لا يملكون السلطة من صغار الشغيلة والموظفين وأصحاب المحال.
هذا ما عمل عليه فالح عبد الجبار داعياً إلى تحرير الفكر من الصنمية والتعبد خاصة وأنّ الإرث الماركسي بطبيعته يمثل خروجاً على النمطية والوصف وتبرير واقع الحال. الماركسية تقوم على ملاحقة التغير والتحول ومتابعة الصيرورات وليس التوقف عند السكون والثبات. ستبقى قراءة "رأس المال"، بنظر فالح عبد الجبار لازمة لكل مثقف بغض النظر عن توجهاته الفكرية والعقائدية الا إنّ عليها أنْ تكون قراءة متحررة من الإعادة والتكرار والنقل الجامد للفكرة. وهذا ما أكد عليه مفكرون آخرون لعل من أبرزهم عالم الاجتماع البريطاني المعروف توم بوتومور في الكتاب الذي ألفه وآخرون وجاء بعنوان "قاموس الفكر الماركسي"، والذي يقول في معرض تقديمه: إنّ الماركسية اليوم تمثل أحد أكثر روافد الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث تأثيراً وحيوية وأنّها أبعد من أنْ تكون نظاماً فكرياً كاملاً أو مغلقاً". ما زالت الماركسية تمر بتحولات عديدة وأنّها أخذت أشكالاً متنوعة وهي تحظى اليوم باهتمام جمهور واسع يشمل القراء المتخصصين من طلبة ودارسين وجمهور آخر أوسع من المثقفين والمهتمين والناشطين المشتغلين في حركات اجتماعية سياسية متعددة لعل من أبرزها الحركات النسوية التي تعنى بالتغيير وتطالب به من أجل مجتمع أكثر مساواتية وربما الأدق أكثر عدلاً. وهذا ما دأب فالح عبد الجبار على التذكير به والعمل وفقه لتطوير العلم وكذلك الحال لتطوير أي حركة أو تنظيم سياسي يسعى الى تسجيل حضور حيوي وفعال لمخاطبة الواقع ومعالجة إشكالاته بطريقة مؤثرة ومنتجة.