صناعة الأسئلة هي الصناعة الأكثر إثارة للاستلاب الثقافي، لأنّها تمسّ جوهر الاشكاليات الكبرى للعقل العربي، ولكل مظاهر تعالقاته وتعارضاته مع الاجتماع الثقافي والاجتماع السياسي..
فالح عبد الجبار واحد من أكثر علماء الاجتماع شغفا بصناعة الأسئلة، لاسيما التي تخصّ المناطق المفهومية للأزمات، والتي تُعنى بالهوية والدولة والأمة والجماعة والمجتمع والذات والآخر والاغتراب والوجود..
وهذا ما يجعل رحيله فاجعا، ليس للدرس السسيولوجي العربي والعراقي حسب، بل ولكل مشروع التجديد ومسار معالجاته الفكرية السسيولوجية والأنثربولوجية، ولخطورة تأثيرها على بنية الدولة والمجتمع، والتي تُعدُّ من أكثر القضايا تهديدا للاجتماع العربي..
لقد دأب الراحل ومنذ وقت مبكر على تأصيل مشروعه النقدي، وعلى أنْ يكون هذا المشروع قريبا من معطيات الواقع والفكر والدرس الثقافي، والذي جعله من أكثر الباحثين اهتماما بالحراك المدني للمجتمع الليبرالي العراقي، ولطبيعة التحولات والتشظيات والصراعات التي عاشها العراقيون في مرحلة(الاحتلال الامريكي) وما افرزته من وقائع ومعطيات مسّت اللاوعي الجمعي، وتمظهرات الهويات(القاتلة والمقتولة)..
المرجعيات الماركسية وأطروحات الليبرالية هي المجال المعرفي المؤسِس في مشغله النقدي، وفي مواجهته تمظهرات الصراع الديني بنسخته الطائفية، فضلا عن دراسته التكوينات السياسية والاجتماعية في العراق، ولطبيعة الاحتراب السياسي والأهلي، ومعالجاته العميقة لتاريخية الأزمة مابين(الدولة والأمة) عبر اعادة النظر بتدوال مايتعلق بهما من مفاهيم وأفكار، وعبر مأسسة أطروحات العقد الاجتماعي، وأنسنة موضوعات تلك الهويات وتجاوز عقد العزل التي تعيشها الى منطقة الحوار والمشاركة ومواجهة تحديات الواقع الجديد..

العلمانية والدين..

من أكثر الموضوعات التي اثارت جدلا في أطروحات الراحل كانت محاولاته(التلفيقية) مابين العلمانية والجماعات الدينية، والحديث عنها بوصفها من (المستحبات) كمايقول الفقه الشيعي، والتي كثيرا ما اصطدمت بعقدة العقل الطائفي العميقة، والتي مازالت تنظر الى الآخر بعين مستريبة، مثلما تنظر الى أطروحات العلمانية بوصفها وجها آخر للالحاد..
أنموذج المثقف الليبرالي واليساري الذي حاول أنْ يؤنسنه الراحل لم يجد صداه إلّا وسط الانتلجنسيا العراقية، والتي وجدت في اطروحاته مجالا لتحريك ماهو راكد واشكالي، لاسيما على مستوى النظر الى ماهو قلق في مفاهيم الدولة والهوية والدين والمختلف وغيرها، والتي لم تزل تثير أسئلتها الصادمة في واقعٍ يشكو الكثير من تداعيات الرثاثة السياسية، والعنف الأهلي..

صراع الظواهر والقراءة الثقافية

في كتابه المهم(العمامة والافندي) استقصى الراحل طبيعة ذلك الصراع، ومن خلال مقاربة (العلاقة بين المقدّس والدنيوي في مناشئ حركات الاحتجاج الدينية في العراق) والتي تحمل في اعماقها صراعا فقهيا واجتماعيا قديما، لكنه حاول وعبر دراسته سسيولوجيا الدين أن يكون أكثر قربا من تاريخ ماترتب على تلك العلاقة من تعقيدات انعكست على موضوعات جدل الأفكار، والقبول بالتنوع والتعدد، وبطبيعة ما يمكن أنْ تكون عليه هوية الدولة، وطبيعة التعايش المضطرب في مجتمعٍ أكثر اضطرابا..
وحتى في كتابه المثير للجدل(مابعد ماركس) اخضع كثيرا من تاريخ الفكر الماركسي الى مقاربات الدرس الثقافي، والى (دراسة اصل النظرية) عبر تمثلاتها في الواقع وفي الأيديولوجيا، وفي وجوهها المسؤولة عن انتاج كثير من(السرديات الكبرى) التي هيمنت على العقل العربي..
رحيل فالح عبد الجبار خسارة كبيرة فهو أحد صانعي الاسئلة الثقافية، وواحد من أهم الباحثين في اشكالات وعينا الاجتماعي وحمولاته المفتوحة على محنة التاريخ وفتنة الصراعات الكبرى...

عرض مقالات: