لو نظرنا إلى الحشود التي تخترق مدن العالم اليوم، تضامناً مع القضية الفلسطينية، ونظرنا إلى دوافع هؤلاء الشابّات والشبان، وإلى خلفيّاتهم الاجتماعية، سنجد أنّ توقاً إلى الفاعلية السياسية يحركهم، هم لا يتضامنون مع فلسطين «إنسانياً» فقط؛ ولو افترضنا أن العدوان انتهى الآن، أي أثر سيتركه تحركهم في مجتمعاتهم؟

الناشط والكاتب الفرنسي فرانك بارات (1977)، هو نموذج عن هؤلاء، وفي مقدمة كتابه الذي حرره وأدار الحوار فيه بين نعوم تشومسكي (1928) وإيلان بابيه (1954)، وصدر عام 2015، بعنوان «عن فلسطين»، يعطي تصوراً عن هذه الحالة. نحن أمام شاب قدم استقالته من وظيفته، وبدأت «الناشطية» تشكل له هماً اجتماعياً خصوصاً بعد زيارته لفلسطين عام 2007 والتي تبعتها زيارات أُخرى كشفت أمامه الواقع الاستعماري وثبّته كمناضل مثابر ضد هذا الواقع. بدأ بقراءة أسماء مثل جون بيرغر وغسان كنفاني، وإدوارد سعيد، وأرونداتي روي، وتشومسكي، ونورمن فنكلشتاين، ونعومي كلاين، وآخرين. وعلى وقع أفكار هؤلاء، رسم الحوار بين تشومسكي وبابيه، في الفترة التي امتدت من العدوان الإسرائيلي على غزّة عام 2008، حتى عدوان عام 2014.

التطهير العِرقي كبنية تحتية

الكتاب، الصادرة ترجمته حديثاً عن «منشورات جدل»، بتوقيع سالم عادل الشهاب، يضم زوايا عديدة لا يمكن الإحاطة بها في هذا الحيز المتاح لهذه المقالة، لكن تجدر الإشارة إلى بعضها، وكذلك الوقوف عندها. الأهم، أو ربما الأكثر راهنية فيه، هي مقاربته بين الحالتين الجنوب إفريقية والفلسطينية، على أنهما قضيتا صراع ضد الإمبريالية وأنظمة الفصل العنصري، وكذلك تناوله «حركة مقاطعة إسرائيل» (BDS)؛ وكلاهما حاضرتان اليوم وبقوّة. حيث يمهد بابيه لمضمون الكتاب بفصل أول، تحت عنوان «حوارات»؛ يوضح فيه أن النقاش في هذا العمل ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: نقاش عن الماضي، وتركيز على فهم الصهيونية بوصفها ظاهرة تاريخية، ونقاش على الحاضر، مع تركيز مكثف على صلاحية واستحقاق تطبيق نموذج الفصل العنصري على «إسرائيل»، وعلى فعالية «حركة مقاطعة إسرائيل» (BDS)، بوصفها استراتيجية رئيسة للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وأخيراً الحديث عن المستقبل، وخيار الدولة الواحدة أو الدولتين.

حكاية فلسطين، كما يشير صاحب «التطهير العِرقي في فلسطين»، «من البداية حتى يومنا هذا عبارة عن قصة بسيطة للاستعمار والاستيطان. ومع ذلك فإن العالم يعاملها على أنها قصة معقدة ومتعددة الوجوه - صعبة الفهم وصعبة الحل أيضاً. لقد تم إخبار قصة فلسطين سابقاً عبر التاريخ، حقاً: تذهب مجموعة من المستوطنين الأوروبيين إلى أرض أجنبية، يستوطنونها، ثم يقومون بارتكاب المجازر أو طرد السكان الأصليين». ويتابع: «لم يقم الصهاينة باختراع جديد في هذا الشأن؛ لكن إسرائيل نجحت بمساعدة حلفائها، في بناء تفسير متعدد الطبقات للقضية، ومعقد إلى درجة لا يستطيع أحد فهمه باستثنائها».

ويتناول بابيه نكبة عام 1948، مؤكداً أن المقاربة الصحيحة لها أنها «تطهير عِرقي»، هذا الأخير هو «البنية التحتية التي تقوم عليها إسرائيل، والحمض النووي للمجتمع الإسرائيلي، وما يزال يمارس بشكل يومي من قبل من هم في السلطة». وينبه أنه لم يمارس بحق الفلسطينيين فحسب، بل تجاه ملايين اليهود الذين قدموا من بلاد عربية وإسلامية، الذين توجّب عليهم الانسلاخ من عروبتهم، والالتحاق بـ»الحلم الصهيوني»، بل كان عليهم «أن يستبقوا الأحداث في إظهار عدم عروبتهم، عن طريق التعبير عن كرههم لهذا الجانب من هويّتهم».

نسيان الماضي هو نسيان المستقبل

في فصل بعنوان «الماضي»، يوجه فرانك بارات سؤالاً واحداً لكل من تشومسكي وبابيه؛ يدور حول «أهمية الماضي في فهم الحاضر»، بناء على من يدعو الفلسطينيين إلى نسيان النكبة وحق عودة اللاجئين. يجيب تشومسكي بداية، معتبراً «أن هذا المنطق يعني نسيان المستقبل بالضرورة». ويضيف: «هذه ظاهرة عالمية، يقول أوباما لننسَ الجرائم التي تم ارتكابها؛ مثل غزو العراق والمضي قدماً، بكلمات أُخرى لنستمر على هذا النهج نفسه الذي كنا نمارسه. هذا هو سلاح القوي».

ويبين تشومسكي، أيضاً، في فصل آخر «المستقبل»، هيمنة اليمين المتطرف على العقلية الإسرائيلية، مثلما حدث في الأيام الأخيرة لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا؛ حيث تسود فكرة «العالم يكرهنا لأنهم جميعاً معادون للسامية؛ لذلك سنفعل ما نريد». وبالتالي فإن كل ما يحدث مع «إسرائيل» هو بسبب الآخرين المتوحشين، ربما هذا ما يفسر لنا، يتابع عالم اللغويات الأميركي، كيف يجلس الكثير من الإسرائيليين ليصفقوا كلما سقطت قنبلة على غزّة.

القسم الثاني من الكتاب، بعنوان «انعكاسات»، ويمتد من الفصل السابع إلى الثاني عشر، ويضم مقالات لكلا المفكرين تتناول قضايا كانت راهنة في الوقت الذي كتب فيه الكتاب. حيث نجد تشومسكي يتطرق إلى «حصار غزّة وجرائم إسرائيل ومسؤوليتنا تجاه ذلك» (9 تموز 2014)، يكتب بالإشارة إلى تقارير من الطبيب النرويجي مادس غيلبيرت: «حينما تتصرّف إسرائيل بشكل جيد، يُقتل طفلان فلسطينيان على الأقل كل أسبوع وهي عادة تعود إلى أكثر من 14 عاماً». ويكتب بابيه تحت عنوان «تاريخ مختصر: حول تصاعد الإبادات الجماعية في الأراضي المحتلة» (13 تموز 2014): «يشعر الناس في غزّة بخيبة أمل بسبب عدم وجود أي رد فعل دولي على المذابح والدمار الذي خلفه الهجوم الإسرائيلي، يبدو أن عدم القدرة أو عدم الرغبة في التصرّف هو أولاً وقبل كل شيء قبول بالرواية الإسرائيلية».

أخيراً، كيف ننظر اليوم إلى هذا الكتاب الذي وضع قبل عشر سنوات؟ فكل المعطيات قد انقلبت، تقريباً، إلى حالة أشد من التوحش، وعدوانا 2008 و2014 يبدوان جزءاً صغيراً من الصورة التي فرضتها الإبادة المستمرة منذ أكثر من مئة يوم. مع ذلك فإن كلا المفكرين، ومن موقع كل منهما الخاص والمختلف عن الآخر، ما يزالان محافظين على موقفيهما المؤمن بعدالة قضية فلسطين، حتى مع بلوغ سياسات الإرهاب والتكميم الغربي لكل الأصوات المناهضة للصهيونية، إلى ذرى لم تكن متخيَّلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

«العربي الجديد» – 16 كانون الثاني 2024

عرض مقالات: