أحتفلت الشعوب والقوى التقدمية في العالم يوم أمس  - التاسع من اكتوبر / تشرين الجاري - بالذكرى  الثانية والخمسين لإستشهاد المناضل الأرجنتيني الاُممي الأشهر في العالم إرنستو تشي جيفارا في إحدى غابات بوليفيا وهو على رأس فرقة  نضالية مسلحة تخوض حرب عصابات ضد جيش النظام الدكتاتوري البوليفي ، وذلك إثر معركة حامية الوطيس  استبسل فيها وصمد حتى النهاية حتى وقوعه في الأسر جريحاً بعدما حوصرت قواته من قِبل فرقة من هذا الجيش بدعم وتخطيط مباشر من قِبل وكالة الاستخبارات الأميركية الارهابية سيئة الصيت  المعروفة ب CIA  ، ولم يمهله آسروه ولو لإسعافه بل عاجلوا  بإعدامه جريحاً بعدما فشلوا  في استجوابه .  وجاءت نهايته التراجيدية الفاجعة ملهمةً لملايين المناضلين في العالم ومازالت كذلك تحتفظ بهذه الخاصية على الرغم من مرور أكثر من نصف على نهايته .

من نافلة القول بأن هذا المناضل الكبير ذا الحماسة الثورية الهائلة المتقدة  قد جانبه الصواب والتقدير الصحيح مقدماً عن آفاق انتصار الثورة في بوليفيا آنذاك من خلال زرع بؤرة ثورية تطلق حرب عصابات واسعة ضد النظام العسكري القائم  ؛ فخوض معركة من هذا القبيل لم يكن مواتياً  البتة في الظروف الملموسة لبوليفيا ، بل لم تكن أصلاً موازين القوى تتيح  هذا استخدام هذا الشكل من النضال المسلح المعزول عن بيئة جماهيرية حاضنة ، حيث كُتب الكثير حتى عن جهل الفلاحين بما يقوم به جيفارا ورفاقه من أجلهم  بل وعزوفهم  عن الإنخراط معهم في كفاحهم وحيث جنّد جيفارا أيضاً مقاتلون اُمميون من بلدان القارة الاخرى ، فقد بدا جيفارا قائداً غريباً عن بيئتهم وأرضهم  ، دع عنك انقسام القوى الوطنية الثورية البوليفية حول هذه المسألة ورفض بعض قوى اليسار -كالحزب الشيوعي - أن يُفرض عليها خوض  هذا الشكل النضالي من الخارج بينما يعتبرون أنفسهم  الأدرى بظروف بلادهم ومن ثم مخاوفهم عما قد ينجم عنه من عواقب وخيمة على مجمل الحركة الثورية في البلاد وهو ما كان .  

على أن كل ذلك لا ينفي بالطبع بأن العالم لم يشهد مناضلاً اُممياً خلال القرن العشرين يمثل قيم التجرد والطهارة الثورية ونكران الذات والتضحية في سبيل المُثل والمبادئ العليا التي اُستشهد من أجلها كما جسدها الثائر جيفارا المعروف بموقفه الصلب الذي لا يلين ضد الشر الرأسمالي والأمبريالي أينما وُجد على وجه البسيطة . ولم  يقترن إسمان مناضلين عالميين منذ مطلع النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي كما اقترن إسمه برفيق دربه النضالي قائد الثورة الكوبية فيديل كاسترو الذي نجح معه في إسقاط نظام باتيستا الدكتاتوري العميل للإمبريالية الأمريكية عام 1959، وكان له دور محوري في إنجاحها . ورغم تقلد جيفارا بعدئذ  مناصب عليا في الحكومة الكوبية  ،  إلا أنه  كان في عجلة من أمره لتحقيق أجندة أحلامه الثورية العالمية ، لكن بالطريقة التي كان يراها الأنجع والأصوب بل والأسرع ، إذ  يكن للأسف ذا نفس ثوري صبورة ، وكانت طريقته النضالية الاممية  أقرب إلى تصدير الثورة وزرع البؤر الثورية .       

لا عجب والحال كذلك أن تلهم سيرته النضالية التي تتوجت بتلك الملحمة الأسطورية الكفاحية  التي انتهت بإستشهاده عامة  الشبيبة في شتى أنحاء العالم على اختلاف تياراتها السياسية والفكرية والدينية ،  فبعد رحيله عن دنيانا غدت صورته الشهيرة المتداولة عالمياً هي الأكثر انتشاراً في فعاليات ونضالات الحركات الطلابية العالمية واليسار الجديد الذي برز بوجه خاص في أواخر الستينيات من القرن الماضي حتى لا يكاد مقر منظمة طلابية أو شبابية يخلو جدرانه من تلك الصورة الأيقونة   . 

لكن ما هي قصة هذه الصورة  التي انتشرت في جميع ارجاء العالم  ؟ لعل من المفارقات التاريخية الساخرة أن الرجل الذي اُستشهد من أجل مُثل الإشتراكية العليا تعرضت صورته الأيقونة لشكل انتهازي قذر من أشكال الاستغلال الرأسمالي على يد واحد من الناشرين الإيطاليين ، هو   جيانجيا فيلترينيلي ، بعد أن تمكن من الحصول عليها بدون مقابل ، فبعد وصوله إلى كوبا قادماً من بوليفيا التي علِم من مصادره فيها بأن نهاية المناضل العالمي الشهير قد اقتربت ، أدرك بحسه  الاستثماري أهمية استباق الحدث الوشيك من خلال الحصول على  أفضل صورة للرجل قبل اختفائه عن الأنظار منذ مغادرته كوبا مباشرةً بعد أن يظفر به أعداؤه في بوليفيا ويجهزون عليه . 

حينذاك وتحديداً مارس / آذار من عام 1960 اُقيم حفل تأبيني في هافانا على ضحايا السفينة الفرنسية " لا كوبرا " التي كانت تحمل شحنة من الأسلحة البلجيكية  وتعرضت لإنفجار غامض أودى بحياة 136 كوبياً ، وكان البرتو كوردا ، مصوّر الجريدة الكوبية " الثورة " ، حاضراً في الحفل ، وبعد أن أنتهى كاسترو من خطبته ، ظهر جيفارا فجأةً على المنصة ، وعلى الفور صوّب كوردا عدسة كاميرته من " ماركة لايكا " فتمكن من التقاط صورتين كان من بينهما تلك الصورة الأشهر التي راجت عالمياً ، لكن رئيس التحرير بعد أن عرض عليه كوردا الصور التي التقطها لوقائع  الحفل أكتفى بصورة لكاسترو وأعاد عليه بقية الصور الاخرى ، إلا أن كوردا أختار إحدى الصورتين وعلقها على حائط الاستوديو الخاص به في هافانا . ولسبع سنوات ظلت  هذه الصورة محجوبة عن النشر داخل كوبا وخارجها ، ولكن حينما  زار هذا الاستوديو الناشر الآنف الذكر فيلتر ينيلي حاملاً خطاباً رسمياً من جهة حكومية كوبية لمساعدته في منحه أفضل صورة يراها مناسبة لجيفارا أشار إليه كوردا إلى الصورة المعلقة على الحائط بأنها أروع  ما لديه من صور تخص جيفارا  ، فطلب الضيف الإيطالي نسختين منهما واُتفق على أن يأتي في اليوم التالي لإستلامهما .وجاء بالفعل في اليوم التالي وأراد أن يدفع ثمنهما فرد عليه كوردا بأن لا حاجة لذلك باعتباره ضيفاً على البلاد جاء ليطلب صورة لأحد رموز الثورة الكوبية الكبار   . 

وما أن اُعلن عن مقتل جيفارا حتى انتشرت في العالم صورته التي حصل عليها الناشر  من المصوّر الكوبي كوردا مجاناً و لم ينل عنها سنتا واحداً ، وفي خلال ستة شهور فقط تم بيع منها 2000000 ملصق ، وتعددت أشكال نشر وانتشار  الصورة / الأيقونة ، بدءاً من انتشارها على هيئة ملصق في إيطاليا ومنها إلى عامة الأقطار الأوروبية ثم  إلى جميع بلدان  العالم ، ولتظهر بعدئذ على جدران المباني والأعلام والأزرارات والميدليات والقمصان القطنية والبوسترات وأغلفة ألبومات الأغاني وتنوعت المتاجرة فيها بطبعها على الأواني والكؤوس والتحف وخلافها . وقام البعض بإضفاء  رتوش وتعديلات فنية على الصورة الأصلية طمعاً في إكسابها جمالاً فوق جمالها الأصلي الأخّاذ  بغية ترويج السلعة المعنية أو رفع سعرها ، كما استثمر فيها الفنان المعروف آندي ورهول حينما طبعها على شاشة حريرية وأخرجها كواحدة من صوره الشعبية على حد زعمه . وبطبيعة الحال لم تتمكن كوبا من مقاضاة الناشر الإيطالي ، لأنها لم تصادق  على اتفاقية بيرن لحماية الملكية الفكرية المرتبطة بحرية التجارة الرأسمالية والتي كان للولايات المتحدة  اليد الطولى في صياغتها إلا في عام 1977 . ومع ذلك لم يندم كوردا أو يعارض هذا الإستخدام غير القانوني والا أخلاقي لإعادة نشر صورة المناضل الذي يجل  ما دامت تنتشر عالمياً وتعزز عالمياً شهرة المناضل الشهيد وشعبية الثورة الكوبية الفتية ، فضلاً عما تشكله الصورة من  مثال ملهم  لشبيبة العالم في مخيلتهم وأفئدتهم بالنظر لما تنطوي عليه سيرته النضالية الوضاءة واستشهاده على أيدي أعداء الحرية من قدوة  . ولكن حينما بلغ المطاف في عام 2000 بشركة سميرنوف للفودكا وضع صورته على إعلاناتها الترويجية فقد طفح الكيل بالمصور كوردا لرفضه التام الاساءة لسمعة هذا المناضل الاُممي في الدعاية لترويج منتجات مثل الكحول ؛ فرفع قضية على الشركة ، لكن القضية تمت تسويتها بين الطرفين خارج أروقة المحكمة وكسب منها كوردا5000 آلاف دولار لكنه أبى أن يحتفظ بالمبلغ لنفسه فتبرع به للنظام الطبي الصحي المطبق في دولته الإشتراكية  حيث العلاج  كواحد من القطاعات الإشتراكية التي توفرها الدولة للشعب مجاناً .  

 

عرض مقالات: